الفنان الألماني إميل نولد (1867-1956) هو من دون شك أحد روّاد الحركة التعبيرية في ألمانيا. أعماله تشهد على حداثةٍ مذهلة وتغطي مرحلة طويلة من الإبداع تمتد من نهاية القرن التاسع عشر حتى الخمسينات، وفيها يستحضر كل التقنيات التشكيلية كالرسم بالألوان الزيتية والأكواريل والحبر، إلى ممارسته فن الحفر والطباعة. لكن نولد هو قبل أي شيء معلّم في استخدام الألوان، فضّل قوة هذه الأخيرة التعبيرية على التقليد وسحر النقّاد براديكالية تدريجاته اللونية وفرادة تشكيلاته النيّرة وتنوّع مواضيعه. ويسمح جمع نحو مئتي عمل فني له في «القصر الكبير» اليوم باكتشاف غنى إبداعه كما يسمح بتحقيق أمنية الفنان بأن تشكّل لوحاته مصدر ارتقاء وإثارة للمشاهد وبأن تخلّف داخله نغمة مليئة بالحياة والإنسانية.
ومنذ طفولته في قرية ألمانية تقع على حدود الدنمارك، شكّل نولد «متحفاً» خاصاً به عبر جمعه صور لوحاتٍ فنية أُعجب بها. وبعد تعلّمه مهنة النجارة، دخل مدرسة الفنون التطبيقية في مدينة كارلروهي حيث درس فنّي الزخرفة والصياغة. وفي الثانية والعشرين من عمره، وصل إلى برلين وعمل في أكبر مصنع للأثاث كرسّام.
وأدّت مهارته في هذا المجال إلى تعيينه عام 1892 أستاذاً للرسم في متحف الصناعة والفنون الحرفية في سان غال (سويسرا). وخلال تلك الفترة، حقق سلسلة رسومه المائية التي تظهر جبال الألب فيها على شكل عمالقة. وعرفت هذه الرسوم، بعد طبعها في شكل بطاقات بريدية، نجاحاً غير منتظر سمح له بتكريس وقته للرسم. عام 1898، استقرّ في ميونخ وقرّر تعلّم فن الرسم. لكنه لم يرض عن الدروس التي تلقّاها لتوقه إلى رسمٍ يتميّز بحرّيةٍ وتعبيريةٍ أكبر ومحرَّر من تأثير الانطباعية التي كانت سائدة.
وبعد عام، انتقل إلى باريس حيث بقي تسعة أشهر درس خلالها في أكاديمية جوليان الشهيرة وأُعجب لدى زياراته المتكررة لمتحف اللوفر بالرسّامين غويا وروبنس ورامبرانت وتيتيان، وولع بالعظمة الدراماتيكية لأعمال دوميي التي شاهدها في «المعرض الشامل». ولدى عودته إلى وطنه، أمضى وقته بين برلين وجزيرة ألسين حيث اختبر العمل بألوانٍ قوية على طريقة فان غوغ.
كان عام 1906 مفصلياً في حياة نولد. فلجنة صالون «la Sécession» قبلت بعرض لوحته «يوم حصاد». وعلى أثر معرض للوحاته ومحفوراته في غاليري أرنولد في مدينة دريسد، دُعي الفنان الى الانخراط داخل مجموعة «دي بروكي» (الجسر) التي تألّفت من شميت - روتولف وكيرشنر وبيشتاين وهيكيل الذين أُعجبوا «بعواصفه اللونية» وطالبوا مثله برسمٍ نيّر وأكثر عفوية وقريب من الحياة. وسعى نولد داخل هذه المجموعة إلى تسهيل انبثاق فن ألماني محرَّر من تأثير الأكاديميات. ولكن بعد عام ونصف، غادر هذه المجموعة لطبيعته الانفرادية والمستقلة، كما تشهد على ذلك لوحة رسمها آنذاك بعنوان «روحٌ حرّة» ونراه في منتصفها محاطاً «بالمديح» و«باللوم والنقد».
في العام 1909، تطرّق في فنّه إلى موضوعات دينية سمحت له بمزج مشاغله الروحية وميله إلى استكشاف الطبيعة البشرية، بعيداً من التقاليد والقوانين السائدة في هذا الميدان. وفي هذه اللوحات، يتجلى هاجس نولد في بلوغ أصالة في تمثيل مشاهد أسطورية وتوراتية وفي إعادة تقييم هذه الموضوعات على ضوء روحانيته الخاصة، ونشاهد اللمسات المجزّأة ذاتها وراديكالية تناغماته اللونية السابقة. ومع أنه قطع بسرعة علاقته بمجموعة «دي بروكي»، فهو حافظ بعد ذلك على بعض الموضوعات الغالية على قلوب أعضائها، وعلى رأسها موضوع برلين، المدينة الحديثة التي تعج بالحياة والضوضاء، وكان قاربه أيضاً غالب التعبيريين الألمان.
وبين 1910 و1911، كرّس نولد عملية إبداعه لليالي برلين مستكشفاً أجواء مقاهيها وحاناتها ومسارحها ومبرّزاً سطحية الناس الذين كانوا يترددون على هذه الأماكن. ومع أن بعض لوحاته تترجم افتتانه بالإضاءة القوية والألوان النيّرة التي تميّزت بها هذه الأماكن، لكن الوجوه العابسة والمظاهر الراضية لشخصيات هذه اللوحات تعكس نظرته الناقدة للمجتمع البرجوازي المنحط.
في العام 1913، سافر نولد إلى منطقة غينيا الجديدة ضمن بعثة علمية، فحقق بشغفٍ كبير سلسلة لوحات للناس البسطاء الذين التقى بهم وللمناظر التي تأمّلها هناك. ومقارنةً بلوحاته السابقة في برلين التي تتميّز بخطوط حادّة وألوان متضاربة، نفّذ هذه اللوحات بأسلوب صاف مستخدماً خطوطاً وألواناًٍ متناغمة، كما لو أنه أراد إعطاء درس للبرجوازية الألمانية التي تبدو بأشكال كاريكاتورية ووجوه تشبه الأقنعة «المتوحّشة»، بينما تبدو الشخصيات البدائية في حالة تناغم مع الطبيعة وبملامح رقيقة وجدّ إنسانية.
ولدى عودته إلى وطنه، استقر في قريته الساحلية التي منحته منذ صغره ذلك الميل إلى الحكايات الخرافية ومدّته برصيد واسع من الوحوش والحيوانات الخرافية التي تظهر في بعض أعماله، فحقق سلسلة لوحات بعنوان «بحار خريفية» ذهب بها إلى أبعد حدود في الاختبار التصويري وبلغ تخوم التجريد في مناظر لا نميّز فيها سوى الأفق، معالَجة بواسطة ألوان حُلُمية تترجم نظرته الشعرية، بل الصوفية، للطبيعة الشمالية المتقشّفة والثائرة.
في العام 1926، وبعد رحلة طويلة في أنحاء أوروبا، اشترى نولد منزلاً كبيراً خصّص فيه فسحة كبيرة لمحترفه الذي لن يغادره حتى وفاته. وبعدما بلغ قمة عطائه، انقلبت حياته مع وصول هتلر إلى سدّة الحكم. فعلى رغم تعاطفه في البداية مع النظام النازي، رفض الالتزام بتعليمات الحزب في الميدان الفنّي، الأمر الذي أدّى إلى تصنيفه «كفنان مُنحَط» وإلى حجز لوحاته التي احتلّت موقعاً مركزياً في معرض «الفن المُنحَط» في ميونخ عام 1937.
ومع أنه مُنع من مزاولة الرسم، لكنه أقدم على تحقيق سلسلة مائيات خفية سمّاها «صوراً غير مرسومة»، وهي كناية عن مشاهد حُلُمية تنبثق من بقع ألوانٍ مجرّدة وتتجلى فيها مواضيع أعماله السابقة: زهور، مناظر طبيعية، مخلوقات خارقة أو غربية الشكل، أطفال... وتبدو الأشكال غير المقصودة داخل هذه الأعمال وكأنها تتبع فيض أفكاره، إذ يختلط المُدرَك بالطارئ والمحسوس ضمن اختباراتٍ لونية حرّة تُعبّر بقوة عن غنى وعمقٍ فريدَين.